في قلب التاريخ الإسلامي، تسطع مواقف لا تُنسى، تخلّدها الأيام وتحفظها القلوب. إحدى تلك المواقف البطولية تتجلى في قصة الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي، الذي تحدّى ملك الروم بثباته وإيمانه، ليصنع صفحة ناصعة من الصبر والعزة في سبيل الله. يمكنك التعرّف أكثر على خلفية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته من خلال [مقالنا عن مولده ونشأته]
بداية الحكاية
كان عبد الله بن حذافة رجلاً من قريش، نشأ في مكة وسبق إلى الإسلام في بداياته، فهاجر وشارك في الغزوات مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم. لكنه لم يكن من الصحابة المشهورين بكثرة الرواية أو المناصب، بل دخل التاريخ من أوسع أبوابه بسبب موقف واحد… موقف لا يتكرر. للاطلاع على ملامح من غزوات النبي، اقرأ [غزوات الرسول ولمحة عن معارك الإسلام]
رسول إلى ملك الروم
في السنة التاسعة للهجرة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسائل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكان من بينهم هرقل ملك الروم. واختار النبي عبد الله بن حذافة السهمي ليكون رسولًا إليه. فكان أول ما دخل عليه، سلّم عليه بتحية الإسلام، وقال:
“من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين…”
قرأ الملك الرسالة وتأملها، ثم أجاب بما شاء، ولكن الموقف الأهم لم يكن حينها، بل بعد وفاة النبي بسنوات، حين وقع عبد الله أسيرًا بيد الروم.
الوقوع في الأسر
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خرج عبد الله في سريّة ضمن جيش المسلمين نحو أرض الروم، فوقع أسيرًا ، فذهبوا به إلى ملكهم ، فقالوا : إن هذا من أصحاب محمد ، فقال : هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي ؟ قال : لو أعطيتني جميع ما تملك ، وجميع ما تملك ، وجميع ملك العرب ، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين .
تعذيبه وقوة إيمانه

قال : إذا أقتلك . قال : أنت وذاك ، فأمر به ، فصلب ، وقال للرماة : ارموه قريبا من بدنه ، وهو يعرض عليه ، ويأبى ، فأنزله . ودعا بقدر ، فصب فيها ماء حتى احترقت ، ودعا بأسيرين من المسلمين ، فأمر بأحدهما ، فألقي فيها ، وهو يعرض عليه النصرانية ، وهو يأبى . ثم بكى ، فقيل للملك : إنه بكى ، فظن أنه قد جزع ، فقال : ردوه . ما أبكاك ؟ قال : قلت : هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب ، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله .
فجرب بأشياء صبر عليها . ثم جعلوا له في بيت معه الخمر ولحم الخنزير ثلاثا لا يأكل ، فاطلعوا عليه ، فقالوا للملك : قد انثنى عنقه ، فإن أخرجته وإلا مات ، فأخرجه ، وقال : ما منعك أن تأكل وتشرب ؟
قال : أما إن الضرورة كانت قد أحلتها لي ، ولكن كرهت أن أشمتك بالإسلام
فقال له الطاغية : هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك ؟ .
فقال له عبد الله : وعن جميع الأسارى ؟ قال : نعم ، فقبل رأسه .
وقدم بالأسارى على عمر ، فأخبره خبره ، فقال عمر : حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة ، وأنا أبدأ ، فقبل رأسه .
دروس من الموقف
1. الثبات على المبدأ: لم تغرِ عبد الله الدنيا كلها، ولا أنسته كرامته تحرير الأسرى.
2. قوة العقيدة: الإيمان إذا وُجد، لا تهزّه سيوف ولا تُضعفه السلاسل.
3. لقدوة في التضحية: ما أعظم أن نعلّم أبناءنا هذه المواقف التي تُربّي الرجولة والشجاعة.
ومن القصص المشابهة في الذكاء والثبات، اقرأ [دهاء وذكاء الإسلاميين من عهد النبي]، وكذلك [ثبات موسى عليه السلام أمام فرعون] ، وتأمل [تقوى أبي بكر الصديق وثباته] .
لماذا هذه القصة خالدة؟
لأنها ليست حكاية بطولية فقط، بل هي قصة عزة مسلم واجه أعظم ملوك الأرض بثبات، وأثبت أن من ذاق حلاوة الإيمان، لا تهزمه سطوة الطغاة، ولا تُزحزحه عروض الدنيا، ولا يُغريه مُلك، فالقلب المطمئن بالله لا يُزعزعه تهديد.